يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}
للكاتب : د. عمر بن عبد الله المقبل
الحمد
لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن
عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا
مرفأ جديد إلى حلقة جديدة من هذه السلسلة الموسومة بـ(قواعد قرآنية)، نعيش
فيها مع قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب التعامل مع الخالق -سبحانه
وتعالى- والتعامل مع خلقه، هي قاعدة تمثل سفينةً من سفن النجاة، وركنًا من
أركان الحياة الاجتماعية، وهي -لمن اهتدى بهديها- علامة خير، وبرهان على
سمو الهمة، ودليل على كمال العقل، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها
قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة: 119].
أيها الإخوة:
هذه
القاعدة المحكمة جاءت تعقيبًا على قصة جهاد طويل، وبلاء كبير في خدمة
الدين، والذب عن حياضه، قام به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه -رضي
الله عنهم-، وذلك في خاتمة سورة التوبة -التي هي من آخر ما نزل عليه -صلى
الله عليه وسلم- قال -تعالى-: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ
مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا
أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117- 119].
والمعنى: إن هؤلاء الذين تاب الله عليهم -النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والثلاثة الذين خلفوا- هم أئمة الصادقين، فاقتدوا بهم.
وأنت -أيها المبارك- إذا تأملتَ مجيء هذه القاعدة القرآنية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
[التوبة: 119] بعد هذه الآيات، أدركتَ أن الصدق أعمّ من أن يختصر في الصدق
في الأقوال! بل هو الصدق في الأقوال والأفعال والأحوال، التي كان يتمثلها
نبينا -صلى الله عليه وسلم- في حياته كلها، قبل البعثة وبعدها.
ولما
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- صادق اللهجة، عف اللسان، أمينًا وفيًّا
حافظاً للعهود قبل بعثته، عرف بالصادق الأمين، وكان ذلك سببًا في إسلام بعض
عقلاء المشركين، الذين كان قائلهم يقول: لم يكن هذا الرجل يكذب على الناس
أفتراه يكذب على الله؟!
أيها الإخوة:
كثيرٌ من الناس حينما يسمع هذه القاعدة القرآنية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
[التوبة: 119] لا ينصرف ذهنه إلا للصدق في الأقوال، وهذا في الحقيقة تقصير
في فهم هذه القاعدة، وإلا لو تأمل الإنسان سياقها لعلم أنها تشمل جميع
الأقوال والأفعال والأحوال! كما تقدم.
يا أهل القرآن!
إن للصدق آثارًا حميدة، وعوائد جليلة; وهو دليل على رجحان العقل، وحسن السيرة، ونقاء السريرة.
ولو
لم يكن للصدق من آثار إلا سلامته من رجس الكذب، ومخالفة المروءة، والتشبه
بالمنافقين! فضلاً عما يكسبه الصدق من عزة، وشجاعة، تورثه كرامة، وعزة نفس،
وهيبةَ جناب، ومن تأمل في قصة الثلاثة الذين خلفوا أدرك حلاوة الصدق
ومرارة الكذب ولو بعد حين.
ومن تأمل في الآيات الواردة في مدح الصدق والثناء على أهله وجدَ عجبا عجابًا!
ولو
أخذتُ في سرد الآيات الواردة فيه سردًا فقط لانقضى وقت الحلقة قبل أن
تنقضي الآيات، ولكن حسبنا أن نشير إلى جملة من الآثار التي دلّ عليها
القرآن للصدق وأهله في الدنيا والآخرة:
1- فالصادق سائر على درب الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- الذين أثنى الله عليهم في غير ما آية بالصدق في الوعد والحديث.
2- والصادق معانٌ ومنصورٌ،
ويسخر الله له من يدافع عنه من حيث لا يتوقع، بل قد يكون المدافع خصمًا من
خصومه، تأمل في قول امرأة العزيز: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ
حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51].
3- والصادق يسير في طريق لاحب إلى الجنة،
ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى
البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب
عند الله صديقا» [رواه مسلم] [1]، وقد قال الله عز وجل ـ-مبينًا صفات أهل
الجنة-: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17].
4- وأهل الصدق هم الناجون يوم العرض الأكبر على ربهم،
كما قال -تعالى-: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ
صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيم} [المائدة: 119].
5- والصادقون هم أهلٌ لمغفرة الله
وما أعده لهم من الأجر والثواب العظيم، قال -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ...
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
وبعد هذا.. فإن من المحزن والمؤلم أن يرى المسلم الخرق الصارخ -في واقع المسلمين- لما دلّت عليه هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]!
فكم هم الذين يكذبون في حديثهم؟ وكم هم الذين يخلفون مواعيدهم؟ وكم هم أولئك الذين ينقضون عهودهم؟
أليس
في المسلمين من يتعاطى الرشوة ويخون بذلك ما اؤتمن عليه من أداء وظيفته؟
أليس في المسلمين من لا يبالي بتزوير العقود، والأوراق الرسمية؟ وغير ذلك
من صور التزوير؟
لقد شوّه -هؤلاء- وللأسف بأفعالهم وجهَ الإسلام المشرق، الذي ما قام إلا على الصدق!
وإنك
لتعجب من مسلم يقرأ هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}! ومع
ذلك يمارس كثير من المسلمين الكذب مع وفرة النصوص الشرعية التي تأمر بالصدق
وتنهى عن الكذب!
ليت هؤلاء يتأملون هذا الموقف، الذي حدّث به أبو
سفيان س قبل أن يسلم، حينما كان في أرض الشام، إذ جيء بكتاب من رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل، فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل
الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم، قال: فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على
هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسبًا من هذا الرجل الذي يزعم أنه
نبي؟ فقلت: أنا، فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا
بترجمانه، فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن
كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب
لكذبت [2].
فتأمل -أيها المؤمن- كيف حاذر
هذا الرجل الذي كان مشركًا يومئذ من الكذب؛ لأنه يراه عارًا وسُبةً لا تليق
بالرجل الذي يعرف جلالة الصدق، وقبح الكذب؟! إنها مروءة العربي، الذي كان
يعد الكذب من أقبح الأخلاق!
ولهذا لما سئل ابن معين: عن الإمام الشافعي قال: دعنا، والله لو كان الكذب حلالًا لمنعته مروءته أن يكذب [3]!
وجاء
في ترجمة الحافظ إسحاق بن الحسن الحربي (ت: 284) أن الإمام إبراهيم الحربي
سئل عنه، فقال: ثقة، ولو أن الكذب حلال ما كذب إسحاق [4]!
وكان إبراهيم الحربي (ت: 285) يقول في الإمام المحدث هارون الحمال: لو أن الكذب حلال لتركه هارون تنزهًا [5].
ولله درُّ الإمامِ الأوزاعي: أنه قال: والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت!
فأين
من هذا أولئك الذين استمرأوا الكذب، بل وامتهنوه، ولم يكتفوا بهذا بل
روّجوا شيئًا من عادات الكفار في الكذب، كما هو الحال فيما يسمى بكذبة
إبريل! ويزعم بعضهم أن تلك كذبة بيضاء! وما علموا أن الكذب كله أسود! إلا
ما استثناه الشرع المطهر.
ويقال: لو لم يكن من خسارة يجنيها هؤلاء
الذين يكذبون إلا أنهم يتخلفون بكذبهم هذا عن ركب المؤمنين الصادقين، الذين
عناهم الله بهذه القاعدة القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}.
ما أحرانا معشر الآباء والمربين، أن نربي أجيالنا على هذا الخلق العظيم، وبغض الكذب، وأن نكون لهم قدوات حية يرونها بأعينهم.
يقول الأستاذ الأديب الكبير محمد كرد علي:
"لو
عَمَدنا إلى الصدق نجعله شعارنا الباطنَ والظاهر في عامة أحوالنا؛ لوفرنا
على أنفسنا وعلى من يحتفون بنا وعلى القائمين بالأمر فينا أوقاتاً وأموالاً
ولغواً وباطلاً، ولعشنا وأبناءنا سعداء لا نقلق ونَرَوّع، ممتعين بما
نجني، مباركًا لنا فيما نأخذ ونعطي، ولعشنا في ظل الشرف، وتذوقنا معنى
الإنسانية، ونَعِمْنا بالقناعة، وعَمّنا الرضى" [6]. انتهى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[size=18]الهوامش:
[1] صحيح مسلم- (2607).
[2] صحيح مسلم- (1773).
[3] لسان الميزان 5/416.
[4] تاريخ بغداد (6/382).
[5] تاريخ بغداد (14/22) وفي النص خلل، صحح من تذكرة الحفاظ 2/478.
[6] أقوالنا وأفعالنا (178).
موقع المسلم
القاعدة الحادية والعشرون من سلسلة (القواعد القرآنية