في مآثر السيرة النبوية الشريفة
تزوج محمد صلى الله عليه وسلم
خديجة وهو في الخامسة والعشرين من العمر، وكما أمضى سنوات الطفولة والشباب
في جو يكاد يكون مجهولاً جهلاً تاماً، وقد قضى محمد عليه الصلاة والسلام
خمس عشرة سنة بعد زواجه من السيدة خديجة في جو أقل ما يقال فيه أننا لا
نعرف عنه شيئاً كثيراً.
وما كادت الحياة العائلية العذبة تنساق بعد
زواجه بخديجة، حتى روعه الموت ببنيه الواحد بعد الآخر فقد ولد لهما القاسم
وعبدالله، ثم زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة من البنات.
وقد تناول
الموت القاسم وعبدالله، فحزن الزوجان، ورعش قلب خديجة النبيلة التي جرحت
أمومتها في فترة من الزمن كانت العرب فيها لا تفضل بالولد الذكر شيئاً،
بينما كانوا ينظرون إلى الأنثى نظرة فيها كثير من الاحتقار والازدراء.
لا
يحدثنا التاريخ في قليل ولا كثير عن ذلك ولكننا نستطيع أن نفطن للوعته
وحزنه وحبه للولد من حزنه على موت ابنه ابراهيم، فقد أدمى هذا الفراق قلبه
وفي القرآن الكريم ما يصور ذلك.
إن الحياة ما أشفقت على محمد في
كثير ولا قليل، فقد ثكلته بأمه وأبيه، ثم بجده فبولديه، وكانت غاية الإنسان
في الجاهلية أن يكون له من الولد ما يحفظ اسمه، ويعزز عصبيته، ويدافع عنه،
كأنما أراد القدر أن يظل محمد يتيماً حتى آخر يوم من حياته، وألا يكون له
من الولد إلا البنات مما جعله يصرف حياته في هذه السنوات التي استبقت
النبوة والوحي، إما في تجارة لزوجه أو في استمتاع بوحدته التي كان يحن
إليها وهي وحدة كانت تساوق رغباته وتصل إلى قرارة نفسه المريرة القاسية.
وكان
محمد صلى الله عليه وسلم يمشي إلى نفسه يفكر في هذه الحياة وشأنها
ومصائرها، وينظر الى الأصنام فإذا هي لا تغني عنه من الله شيئاً، وإذا هي
حجارة لا تضر ولا تنفع، فكان يستغرق باحثاً عن الحقيقة طالباً الهدى والحق
في بحثه وتفكيره، وطلب الوحدة فألفاها في غار حراء، وهو غار يقرب من ثلاثة
أمتار في مترين في قمة جبل على يسار السالك من مكة إلى عرفة.
كان
محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بقليل على نحو ما تقول كتب السيرة يألف
العزلة، ولم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده متأملاً في شؤون الكون
العظيم وكان يقضي شهراً مجاوراً في غار حراء، كما ذكر كتاب السيرة النبوية.
فيم كان يفكر؟ وما الذي كان يطلب؟ وما هذا التحول الجديد الذي طرأ عليه؟ وما الذي جعله يتهرب من الناس وينفر منهم؟
هذا ما لا يزال حتى اليوم سراً من الأسرار.
وقد
ذهب محمد صلى الله عليه وسلم إلى غار حراء بشراً حائراً، وإنساناً مرتبكاً
مضطرباً، وغادره إنساناً نبياً ورسولاً كريماً.. ففي هذا الغاز هبط عليه
الوحي وتلقى الرسالة النبوية الشريفة وأخذ القرآن الكريم.
وسرعان ما
دعا محمد قومه إلى لا إله إلا الله، وأنه عبده ورسوله، كذلك دعا إلى ترك
الأوثان، وعدم الاشراك بالله فكانت دعوة محمد ضربة شديدة على القوم
وتمزيقاً لما ألفوه من عادات، وأقاموه من مصالح، وأنشأوه من تجارة بين
القرى والقبائل والأقطار.
فمكة مركز الوثنية في جزيرة العرب لوجود
الكعبة فيها، وكان تدفق عرب الجزيرة على مكة وأوثانها مورداً عظيماً من
موارد العيش عند سكان مكة، وكان زعماء مكة من قريش يسيطرون طبعاً على غيرهم
من القبائل في الأشهر الحرم التي ينزلون إبانها مكة، وكانوا يستفيدون
تجارياً وأدبياً واجتماعياً من قدوم الحجاج الى مدينتهم وقيام الأسواق
التجارية حولهم.
ولهذا فقد حارب أهل مكة وتجارها محمداً والإسلام لأنه يهدد مصالحهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ولكن
دعوة محمد ظلت تجد أنصاراً وأعواناً برغم اضطهاد قريش للمسلمين، وكان أكثر
المسلمين في هذه الفترة من الزمن من أبناء الطبقة المتوسطة إلا بعض أفراد
قليل عددهم فإنهم كانوا من الطبقة الارستقراطية.
وعندما استفحل
الأمر رأت قريش أن تقاطع محمداً وعائلته من بني هاشم وأنصاره من المسلمين
فلا تعاملهم ولا تتجر معهم ولا تخالطهم، وتمنع أحداً من معاملتهم والاتجار
معهم حتى يموتوا جوعاً، وكذلك حجزت قريش محمداً وعشيرته من بني هاشم في بعض
شعاب مكة، فقضوا في الشعب نحو ثلاث سنين قاسوا فيها جهداً وضائقة عظيمين
حتى لقد كان يسمع صوت صغارهم وهم يتضورون جوعاً، حتى قام من قريش من حركتهم
عاطفة الرحم والقرابة فسعوا الى إخراجهم من الشعب فأخرجوا منه شفقة عليهم.
كذلك فإن بعض المسلمين قبل هذا الحصار قد ذهبوا الى الحبشة هرباً من أذى
قريش وما كانت تلحق بهم من عدوان.
وعندما خرج محمد صلى الله عليه
وسلم من هذا الحصار الذي فرضته مكة وأهلها عليه أيقن أن الأمل ضعيف باجتذاب
قريش وعظمائها إليه وإلى دينه، ففكر في الذهاب إلى الطائف عله يجد فيها
قوماً يؤيدونه وينصرونه في دعوته.
وذهب محمد إلى الطائف فلم يوفق،
فعاد إلى مكة حزيناً مضطرباً، كذلك كان قد مات عمه أبوطالب وفقد زوجته
خديجة، وكانا يحنوان عليه ويقويانه ويساعدانه، مما جعل موقفه صعباً للغاية
وهذا ما دعا النبي للتعرف إلى بعض أهل المدينة فوعده هؤلاء بتأييده والدفاع
عنه، فعلمت قريش بذلك وأدركت أن الموقف أصبح يستدعي شيئاً من الحزم
والسرعة، فكان اجتماع الملأ بمكة للتآمر عليه. وقد حدث ذلك في دار الندوة،
في يوم من أيام شهر صفر من عام الهجرة، حين اتفق عظماء قريش على الاجتماع
للبحث في الاقتصاص من النبي صلى الله عليه وسلم.