طالما حلم المرء منذ أول وجوده بأن
يحقق كل أحلامه و يصل إلى كل طموحاته.. أن يعيش حياة وردية
طريقها معطّر بشذى الورود و سماؤها متلألئة بنور الفرح
والرضا.. لكنه غالبا ما يصدم حتما بجدار الواقع...
الواقع الذي يقف دائما عائقا يحول دون الوصول الى هدفه على أحسن ما يكون ...
فالإنسان مهما وصل بلغ من درجات العلم ..
مهما تمتّع بجاه و مال ... و مهما كبرت قوته و نفوذه...
يبقى دائما ذلك الكائن الضعيف.. الواهن .. الذي يجد نفسه دائما
عاجزا عن الوصول إلى القمة التي يحلم بإعتلائها..
لذلك ، وحتى يحس بمعنى وجوده كان عليه أن يعود لواقعه..
و أن يرضخ للقدر..
و خاصة أن يكون قنوعا راضيا بقدره..
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
(قد أفلح من اسلم و رزق كفافا و قنعه الله بما آتاه)
كثيرا ما كنا نسمع آباءنا عندما كنا
أطفال صغارا يقولون لنا أن "القناعة كنز لا يفنى "
لكننا ترى هل فهمنا حقا معنى هذه الحكمة المتوارثة ؟؟
وقفات
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
ينام على الحصير، فرآه الصحابة وقد أثر الحصير في جنبه،
فأرادوا أن يعدوا له فراشًا لينا يجلس عليه,
فقال لهم: " مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ، وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا إِلا
كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا "
أُهْدِيَتْ إلى السيدة عائشة -رضي الله عنها-
سلالا من عنب، فأخذت تتصدق بها على الفقراء والمساكين، وكانت
جاريتها قد أخذت المساء أحضرتها، فقالت لها السيدة عائشة -
رضي الله عنها-: ما هذا؟ فأجابت الجارية سلة من هذه السلال
وأخفتها عنها، وفي ادخرتُه لنأكله. فقالت السيدة عائشة -رضي الله
عنها-: أما يكفي عنقود أو عنقودان؟
هكذا كان يتّصف رسولنا الأكرم ،
عليه الصلاة و السلام , أعظم خلق الله و أرفعهم مكانة ، كان
راضيا قنوعا بما عنده ولا يسأل أحدا شيئا ، بل كان في قمة
التواضع و الإيثار، وهكذا كانت زوجته عائشة رضي الله عنها
أطهر نساء الكون وأشرفهم، كانت تكتفي بالقليل من أجل التصدق
بالكثير..
أعجب من تلك الفئة من الناس التي إن
أكلت لا تشبع ، وإن لبست لا تدفأ ..و إن سكنت لا تهنأ
فمن نحن أمام الرسول و زوجه حتى لا
نرضى بما أعطانا الله و نكفر بما أغدقه علينا من نعم
نحن من نطلب دائما المزيد و نطمع
دائما في الأفضل ..
لا لشيء سوى للتظاهر أمام الآخرين و التباهي بما نملك..
نحن من نريد تغيير ملابسنا كل اسبوع..
و سياراتنا كل سنتين..
استجابة لنفوسنا الجشعة ..
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
(ليس الغِنى عن كثرة العرض ولكنَّ الغنى غنى النفس)
لننظر إلى غيرنا ممن يعانون حولنا ..
- إن لم يعجبك يوما الأكل الذي أمامك
فكر في تلك العائلات التي لا تكاد تجد ما يسد رمقها ..
- إن شعرت بالنفور من ملابسك
و أردت أن تشتري ملابس جديدة مثل أصدقائك وظروفك لا تسمح
بذلك .. انظر إلى أولئك البؤساء الذين يضعون مجرد أقمشة
تواريهم .. ولا تكاد تقيهم حرارة الشمس أو صقيع البرد..
- إن أردت تغيير سيارتك أو منزلك ..
فاعلم أن هنا الكثيرون ممن يقطنون الشوراع والانهج..
- إن مللت من عملك و طمعت في عمل
يغدق عليك راتب أفضل.. انظر إلى من يملك شهائد عليا و لم
يستطع الحصول على أقل وظيفة..
احمد ربك كثيرا على نعمة الصحة ،
وعلى أنك معافى سليم ، فكثيرون هم يتوقون إلى التمتع بما تتمتع
به..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من أصبح منكم آمناً في سِربه، معافى في بدنه، وعنده قوتُ يومه،
فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)
اعلم أنه إذا كنت تريد الزيادة في كل شيء فإنك لن تحقق السعادة أبدا...
لأنك تنظر دائما إلى من فوقك ولا تبصر من هم تحتك..
وانك حتما سوف لن تصل إلى القمة ..
وتذكر دائما قول رسول الله عليه الصلاة و السلام :
(طوبى لمن هُدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً وقنع)
فالسعادة لا تكمن في كسب المال و الانسياق خلف المظاهر الزائفة..
السعادة تكمن في تحقيق الراحة النفسية..
و الشعور بالطمأنينة
وذلك لن يتحقق مادامك تجحد نعم الله عليك..
فحتى وإن ظللت تلهث دائما للوصول
إلى كل ما تتوق إليه فثق حتما بأنك ستخسر أكثر مما تربح ..
يجب أن ترضى بالقليل و شكر ربك
على نعمه.. وأن تروض قلبك على القناعة والاكتفاء..
فالله هو وحده الحامل لمفاتيح الغيب و هو الرزاق الوهاب..
قال تعالى : (وَما مِنْ داَّبةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلى اللهِ رِزْقُهَا)
اجعل ثقتك بالله كبيرة ، و أعلم أنه هو مجري كل الأمور و لا مغير لأمره ،
و لا تفكر كثيرا فيما سيأتي غدا
فقط عش يومك مثل ما أنت..
حاول أن تنهض بحياتك و تسمو بها.. و لا تستقوي على نفسك.. ولا تجهدها
و اعلم بأن هذه الدنيا زائلة و فانية..
و لن يبقى بعد موتك سوى عملك الطيب و سيرتك الحسنة..
لا مالك و أملاكك
أختم موضوعي بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم
(أتاني جبريل فقال: يا محمد عش ما
شئتَ فإنكَ ميّت، وأحبِب مَن أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت
فإنك مُجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزّهُ
استغناؤه عن الناس)
نسأل الله أن يرحمنا ويغفر لنا ذنوبنا
وأن يجعلنا قنوعين شاكرين لنعمه