أغرقت الأدوية النفسيّة الأسواق
العالميّة وها هي، كما بائعي الجرائد، تدقّ أبوابنا يوميًّا بهدف جذبنا إلى
تعاطيها بالكيلوغرامات سنويًّا، ويصف بعض الأطبّاء اليوم هذه الأدوية
بأنّها قنابل موقوتة لمعالجة حالات نفسيّة من الممكن معالجتها بصورة
مختلفة.
ويقف وراء بيع هذه الأدوية الصناعات الصيدلانيّة التي تبتكر يوميًّا، إلى
جانب براءات اختراع الأدوية، إضافةً إلى الأنواع الجديدة من الاضطرابات
النفسيّة المشتركة التي سرعان ما تتحوّل بدورها إلى أمراض.
وأوّل من يتعاطى هذه الأدوية هم أولئك الذين فقدوا الصبر على تحمّل تعب
العيش ومآسيه، فها هم يبتلعون يوميًّا حبّة الدواء النفسي على أمل أن يرموا
هذا التّعب النفسي في سلّة المهملات.
في الحقيقة، إنّهم يدخلون دوّامة ملعونة تجعلهم يستهلكون أعدادًا من هذه
الحبوب لمحاربة القلق والانزعاج والتعاسة والوعكات النفسيّة العابرة،
وتغذّي هذه الدوامة عشرات البحوث التي تقود تمويلها كليًّا الصناعات
الصيدلانيّة التي تختبر، بصورة لا يمكن تفاديها، أدوية جديدة مؤهّلة
لاقتحام الأسواق العالميّة من أبوابها العريضة.
في الحقيقة، إنّ ظاهرة اليأس من العيش يمكن معالجتها على نحو مختلف، لكن
للأسف، لا يمكن استكشاف هذه العلاجات البديلة وذلك بسبب انعدام أيّ تمويل
لها.
هذا هو رأي بروفيسور بريطاني مشهور في علوم النفس، البروفيسور "بيتر
تايرر"، من جامعة "امبيريال كوليدج" في لندن، والذي يتحدّى عمالقة الصناعة
الصيدلانيّة على مستويين.
فميول هؤلاء العمالقة إلى توسيع سوق الأدوية عن طريق تحويل عوارض نفسيّة
كالخجل والنزوع إلى الحزن والانقباض إلى أمراض جرم بحقّ البشرية، أمّا
مواجهة الأمراض، كالكآبة وانفصام الشخصيّة، فهي تتمّ بوساطة آليات عمياء لا
ترى الواقع بوضوح.
وفي ما يلي نصّ الحوار معه ويتطرّق إلى الأخذ في الحسبان آليات غير
صيدلانيّة كالعلاج النفسي والتدخل الاجتماعي اللذين ينتزعان اليوم عدّة
اعترافات علميّة بمدى فاعليّتهما:
- إلى أيّ نقطة وصلت البحوث في علم النفس؟
حديثًا، قمنا بنشر نتائج دراسة تمهيديّة حول فعاليّة "نيدوثيرابي"
(Nidotherapy) وهي علاج يعمل على ملائمة البيئة المحيطة بالمريض بكافة
احتياجاته الحياتية، كما تتطرق هذه الطريقة إلى تغيير بعض الحقائق المحيطة
بالمريض، كأسلوب العيش وكيفيّة التفاعل مع البيئة الاجتماعية والأشخاص
المحيطين به.
صحيح أنّ الحياة، لدى شرائح واسعة من مجتمعنا، تجلب وراءها الصعوبات، إنما
من الأفضل تغيير ملامح حياتنا من دون أن نتدخّل "صيدلانيًّا" لتغيير
"أدمغة" الأشخاص المخنوقين من صعوبات الحياة ومآسيها. طبعًا، إنّنا نقلب
معايير التدخّل الطبي الكلاسيكي رأسًا على عقب.
فنحن لا نقوم بملائمة المريض النفسي بالبيئة المحيطة به، إنّما العكس أي
ملائمة هذه البيئة باحتياجات المريض، إنّ تهدئة شخص مضطرب نفسيًّا لا يعني
بالضرورة معالجته بالأدوية!
- لكنّ غالبيّة الدراسات في علوم النفس يقف وراءها طابور من الأدوية الجديدة التي تنتظر بيعها .. ما هو تقويمكم؟
إن المشكلة الأساسيّة إقتصادية وماليّة الطابع، من دون دعم الشركات
الصيدلانية يصعب إطلاق العنان لدراسات تكلفة كلّ واحدة منها تصل إلى نصف
مليون دولار!
إن 95 في المئة من البحوث الصيدلانية تقوم بتمويلها الشركات الكبرى، كما أنّه من الصعب الحصول على تمويل "مستقلّ وحيادي اللون".
هكذا، تختار الشركات الصيدلانية تمويل ما يهمّها من دراسات تكون نتائجها النهائيّة واقعة في مرمى مصالحها الخاصة.
علاوة على ذلك، فإنّ هذه الشركات تقود عمليات احتكارية غير مرئيّة من الصعب
الإفلات من قبضتها، إنّ الأدوية النفسيّة قطاع حسّاس للغاية، إذ لا يمكن
لاختصاصيّي علوم النفس تشخيصها بوضوح وكأنّها أمراض معروفة للطب في الماضي
والحاضر.
نجد في الأسواق تشكيلة من الأدوية النفسيّة لكنّنا لا نفهم أيّها يعمل
جيّدًا، لذلك، علينا أن نكون في غاية الحذر في التعاطي مع كلّ ما هو جديد
من أدوية نفسيّة تُطرح في الأسواق.
- هل يمكن التلاعب بنتائج الدراسات الصيدلانيّة؟
ثمّة عدّة طرق للتأثير على نتائج هذه الدراسات، على سبيل المثال، يتفادى
الباحثون استعمال الجرعات الأعلى من الأدوية النفسيّة الجديدة في
اختباراتهم، وذلك للتقليل من آثارها الجانبيّة.
كما أنّ الشركات تعمل على تمويل بحوث تخوّلها توسيع منافع هذه الأدوية، ومن
الواضح أنّ هدفها الرئيس يكمن في توسيع السوق الصيدلانيّة إلى حدّ أبعد.
- كيف يمكنها ذلك؟
عن طريق تحويل حالات نفسيّة لم يُعرف لها علاج صيدلاني مناسب بعد، إلى
أمراض، يعتمد الأطباء اليوم على نظريّة خاطئة وهي المهيمنة من دون جدل،
تفيدنا هذه النظرية بأنّه في حال تمكّن الدواء من "تصفير" حالة ما، فإنّ
هذه الحالة هي مرض بذاته، لكنّ الأمر ليس كذلك.
فعلى سبيل المثال، لو جعل عامل منشط بعض الأشخاص أقلّ انطوائيّة فهذا لا يعني أنّ الانطوائيّة مرض.
توجد اليوم محاولات "ناجحة" لتحويل النزوع إلى الحزن إلى كآبة والخجل إلى
مرض الرّهاب الاجتماعي. في الحقيقة، إنّها اضطرابات نفسيّة وليست أمراضًا
مشتركة ومتفشية جدًّا حول العالم.
من جانبها، فإنّ الشركات الصيدلانيّة تقلق حول أوضاع موازناتها، وهي تفرح
جدًّا عندما تؤكّد للجميع على أنّ 5 في المئة من سكّان العالم يعانون من
مرض الرّهاب الاجتماعي "سوشل فوبيا"، لكنّها وجهة نظرها المستقلة التي لا
علاقة لها بالحقائق.
- هل يمكننا التفكير إذًا بأنّ البحوث الصيدلانيّة برمّتها، في علوم النفس، ضحيّة صراع المصالح التجارية؟
نعم .. إنّ الفساد يطال قلب عمالقة الصناعة الصيدلانيّة حول العالم وهذا ما
أثبتته تحقيقات حكوميّة رفعت الغطاء عن عدد هائل من عمليات الغشّ في قلب
مكاتب إدارة هذه الشركات.
- هل يمكننا الوثوق بالأدوية النفسيّة المباعة في الصيدليّات؟
ليس دائمًا! إنّ الشركات الصيدلانيّة تسعى إلى امتصاص المردود الأقصى من
الأدوية المباعة قبل أن تنتهي صلاحية براءات الاختراع المرتبطة بها.
يكفي النظر إلى دواء من الجيل الجديد يدعى "أولانزابين"، المصنّف كمضاد
للذّهان ويستخدم لعلاج المرضى الذين يعانون من التوهم والهلوسة واضطراب
التفكير والعدوانيّة.
أضحى هذا الدواء محورًا لعدّة قضايا قانونية رُفعت بشأن شرعيّة استعماله مع
المرضى المسنّين المعرّضين بسببه لخطر اعتلال الدورة الدموية الدماغية
لديهم وتاليًا للجلطة.
كما يتمّ استعمال هذا الدواء من دون قيود على المختلين عقليًّا، مع ذلك،
فإنّ هذا الدواء يمثل مصدر ربح مهمّ للشركة التي أنتجته والتي تنتظر انتهاء
صلاحيّة براءة اختراعه عام 2011، قبل أن تسحبه من السوق لتطرح بديلاً عنه!
- هل نستطيع القول إنّ بحوث الشركات الصيدلانيّة غير موثوق بها؟
هناك موجة تشاؤم متزايدة حيال عمليات التمويل والرعاية من جانب الصناعة
الصيدلانية، صحيح أنّ نوعيّة البحوث عالية ويحاول الباحثون إنجاز ما
بوسعهم، بيد أنّهم يصطدمون بقرارات المموّلين الذين يقرّرون كيفيّة قيادة
هذه البحوث.
ها هم يقرّرون مثلاً من هم المرضى الذين سيخضعون للتجارب، والبارامترات التي ستعتمد الدراسات عليها وإلى متى ستدوم هذه الدراسات.
أمّا الباحثون الذين يعملون بوساطة التمويل العام فعليهم، قبل مباشرة
الدراسات، التعريف عن نوعية المعطيات التي سيتمّ تحليلها وكيفيّة معالجتها،
الأمر الذي يجعل التحكّم بنتائج الدراسات صعب المنال!
- هل تفضّلون العلاج النفسي الاجتماعي على الأدوية؟
طبعًا، إذ إنه فعّال كالأدوية .. مع ذلك، لا يحظى العلاج النفسي بمكانة
بارزة لا بل يغيب تمامًا عن الدّراسات التي تمارس عليها الشركات الصيدلانية
ضغوطًا.
في بعض الحالات، ثمّة مشاكل أخلاقيّة مع أولئك الذين يعانون من كآبة حادّة
تجعلنا نتفادى أيّ علاج غير تقليدي، إذ لا يمكننا دعوة هؤلاء المرضى إلى
المشاركة في دراسات تعمل على المقارنة بين مفعول دواء ما والعلاج المموّه،
وهذا قد يعرّضهم لخطر الانتحار.