الفاروق عمر.. جامعة العدل والحب والإيمان
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أول من يُؤتى كتابهُ بيمينه عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس. فقيل له: وأين أبو بكر يا ابن عم رسول الله؟ قال: هيهات! رفعتهُ الملائكة إلى الجنة.
أسلم عمر بن الخطاب t بسورة طه، وكان أصدق من الشمس في ضحاها، وكان أوضح من القمر إذا تلاها، وأشهر من النهار إذا جلاَّها، تولّى الخلافة فأعلاها، وقاد الأُمَّةَ فرعاها.
السلام ُ عليك يا عُمر يوم أسلمت، والسلامُ عليك يوم هاجرت، والسلامُ عليك يوم توليت الخلافةَ، والسلامُ عليك يوم متّ شهيدًا، ويوم تبعثُ يوم القيامةِ في الخالدين.
نعيش مع سيرة الفاروق العطرة؛ ليعلم العالمون أن عُمر ينبغي أن يُكرم، حتى في القرن العشرين، وأن عُمر جامِعة للعدل وللحُب وللإيمان وللطموح.. ولأننا نُحبُ عمر t رجاءَ أن نكون معه؛ لأن المرءَ مع من أَحبّ، ولأننا لو سلكنا سُلوكَه، لما انحدرنا إلى القاعِ السحيقِ، الذي نُعاني منه ومن واقِعه ما نرى وما نُحس وما نعيش، ولكن الفرصة لم تفت، والأريب من إن فاتته فُرصة استعد وتربص لغيرها. وعلى هذا الأساس دراستنا لشخصية عُمَر المتميزة؛ لأننا نأمل أن تكون تربية عمر لنا منجاة، وخلاصًا لهذه الأُمة المسلِمة المُعنَّاة، وما يزال في الأملِ مطمَع، وفي الوقت مُتسَع.
علو همة وأنفة:
إن دِقة إحساس عمر وعُلوَ همته، وأنَفته في الجاهلية لزِمتهُ منذ أول لحظة أسلَم فيها.. عزَّ عليه بعد إسلامِه أن يَخفيه فلا يُعلِن به، الإباءُ والصراحة وعُلو الهِمة من شيم الرُجولَة عند صاحبِ العقيدةِ الحقة، هذه الخِلالُ العالية تُلزِمَهُ أن يقفَ إلى جانب الحق الّذي آمن به، بالِغةٌ ما بلَغــت تكاليفُ هذا الوقوف مِن تبعاتٍ وأعباءٍ، حتى مصادرة الحرية وتعذيب البدن وفُقدان الحياة، وفي هذا المعنى يقول النبي r: "لقيام أحدكم في الدنيا يتكلم بِحقٍّ يرُد به باطِلاً وينصُر به حقًَّا، أفضلُ من هجرةٍ معي".
سلامة فطرته:
وموقِفٌ لعُمر في جاهليته يدلُ على شِدةِ نكيره للمسلِمين، إلا أنّ سلامة فِطرته المُهيأة للخير كانت تبدو منها ومضات تدل على ما في دخيلةِ نفسِه من خير، تقولُ ليلى بنت أبي حثمة القرشية العدوية: كان عُمَر من أشدِ الناسِ علينا في إسلامِنا، فلما تهيأنا للخروج جاءني عمر وأنا على بعيري فقال: إلى أين يا أم عبد الله؟ فقالت: آذيتمونا في ديننا فنذهبُ إلى أرضِ الله. فقال: صَحِبكم الله.
امرأةٌ مُهاجرةٌ مؤمِنةٌ، لم ترهب عمر على شدته في الجاهلية تُصارحه بما انتوت، ورجلٌ فُطِر على الصراحة؛ لأنه رجلٌ قبل كل شيء، فقد أكبَر فيها صراحتها فاحترمها.
تقولُ له زوجته عاتِكة بنت زيد: ألا تنام الليل؟ قال: إن نمتُ الليل ضاعت نفسي، ولو نمتُ النهارَ لضاعت رعيتي.
وقد كانت له دِرَّةٌ يُؤدبُ بها حُكّامَ المُسلمين من أُمراءٍ للأقاليم ووُلاة، وكان يحكمُ اثنين وعشرين دولة إسلامية اليوم، يحكُمها عمر من المدينةِ.. وكان إذا سمع بصيته كسرى وقيصر ارتعدوا على كراسيهم، يقول الشاعر:
ما لي وللنجـم يرعـاني أرعـاه *** أمسـى كلانا يعاف ُالغمـضُ جفنـاهُ
لي فيك يا ليــل آهاتٌ أردِدُها *** أواهُ لـــو أدت المحـــزونُ أواهُ
كم صرّفتنا يـــدٌ كُنا نُصرِفها *** وبـات يملِكُنا شعـــبٌ ملكنــاهُ
يا من يرى عمر الفــاروق تنعمه *** تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواهُ
يهزُّ كِسـرى علـى كُرسيه فَرَقًا *** من خـوفٍ ومـلوكُ الرُّوم تخشــاهُ
صَعَدَ عامَ الرمادة ليتكلم إلى الناس، فقرقرت أمعاؤه، فقال لبطنه: قرقِر أو لا تُقرقر، فوالله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.
خادم الفقراء:
يروي ابن كثير عن طلحة بن عبيد الله أن عمر خرج فَدخل بيتًا فيه عجوزٌ عمياء حسيرة، فلما خرج دخل طلحة فقال للمرأة: من أنتِ يا أمةَ الله؟ قالت: أنا عجوزٌ عمياء حسيرة في هذا البيت. فقال: من هذا الذي يأتيكِ؟ فقالت: يكنِسُ بيتي، ويحلبُ شاتي، ويغسلُ ثوبي، ويَضعُ الفطور لي. فبكى طلحة حتى جلس وقال: أتعبت الخلفاء من بعدك يا عمر.
وقف َعمر على المنبرِ يومًا فقال: أيُها الناسُ، ماذا تقولون إن اعوججتُ عن الطريق هكذا. وأشار بيده فأمالها، فسَكت الناسُ وقام أعرابيٌ من آخرِ المسجدِ فاستلَّ سيفه وقال: إن اعوججت عن الطريق هكذا قُلنا بسيوفنا هكذا. فقال: الحمدُ لله الذي جعل في رعيتي من إن اعوججتُ عن الطريق هكذا قال بسيفه هكذا.
وعمر الخليفة لمّا وعَى قولَ النبي r: "إن الله مع الحاكم ما لم يجر، فإن جار وكله الله إلى نفس". لمّا علِم ذلك عاشَ وتفانى في التزامِهِ، لم يهتم بشخصه ولكن بالمهمة الكبرى التي هيأه الله لها، هي التي يجبُ أن تظلَّ مرفوعَةَ الجانبِ؛ ليظلَ أمرُ الأُمَّة سَليمًا ما سلِمَت فيه الأوضاع التي لا يقوم صلاح الناسِ إلا عليها.
قد عرف تبعَتَهُ كخليفة، وأنّ هذه الخلافةَ يجبُ أنّ تظلَ نظيفةً، لا ترقى إليها الظُنون، فهو لذلك دائِمُ التفقُدِ لأهله في تصرفاتِهم مخافة أن يقعَ من أحدُهم ما لا يُجمل به كفردٍ في أُسرةِ رئيسِ الدولةِ، التي يجِبُ أن تتجنب كل ما يُطلِقُ القالة، ولو على غير أساس.
أهدى أبو مُوسى الأشعري لعاتِكة زوج عمر t حُلةً، فردها إلى أبي موسى بعد أنْ ضربها بها على رأسِها، وعنّفَ أبا موسى تعنيفًا شديدًا؛ لأن الهدايا إلى الحُكّامِ ما لها من سبيلٍ في عالمِ الحُكمِ النظيف، وكم قضتِ الهدايا على قادةٍ وزُعماء!! قد يَعِفُّ المسئولُ عن هديةٍ لشخصه، ولكنه قد يغضي عنها لبعض أهلِه. أما عمر فلا يقبلُها لنفسه، ولا لأحدٍ من ذويه، ويُؤنبُ على قَبولِها بما يراهُ مُناسِبًا. إنّ الحاكم الذي يقبل الهدية يهونُ على مرءوسيه قبولها بدورهم، فلا تُقضى مصالِحُ الرعية إلا عن طريق الهدية، أو ما هو شرٌّ منها، وما أخطره من طريق!!
رحلته لبيت المقدس:
عمر قصةٌ طويلةٌ طويلة.. وعمر شرفٌ للأُمة، وأيُّ شرف..!! يُرسِل جيوشَه لتفتحَ بيت المقدس فتحاصر فلسطين، وتُضّيقُ الخناق على النصارى، فرأوا أن لا قِبَلَ لهم بجيوشِ عُمر، فأرسلوا إليه يطلبون منه القُدومَ بنفسه ليفتح بيت المقدس فيوافق، ويأتي بمولاه ويقول: تنطلقُ معي. فقال: معك يا أمير المؤمنين. فيخرج ويقول لمولاه: أركب عُقبةً وتركبُ عُقبةً. فقال المولى: ما يصلُحُ هذا يا أمير المؤمنين. فقال: ألا تتعب أنت؟ فقال: نعم. قال: أركب إذن. حتى بلغوا مشارف بيت المقدس فدخلوا فإذا جيوش عمر في استقباله في طوابيرٍ كأنها جبال راسية، فيقولُ له عمرو بن العاص: خيبتنا يا أمير المؤمنين، أتيتَ بهذا الزيّ. فقال: اسكت! نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العِزة بغير هذا الدين أذلنا الله.
ثم قال لأبي عُبيدة: تعال أبكي أنا وأنت على عُهودِنا التي خلفنا رسولُ الله r عليها. فلما انتهى استمر في الطريق، وخرج النصارى عن بكرة أبيهم، ينتظرون هذا الذي ذاع صيته، وهزّ ملك كسرى وقيصر، وفتح المُدن وهو في المدينة، فلما اقتربوا من بيت المقدس قال لمولاه: اركب أنت. قال: يا أمير المؤمنين وصلنا. فقال: والله لتركبَنّ. فقال: يا أمير المؤمنين، الناس ينظرون ويظنّون أني أنا الأمير. ولكن عمر أصرَّ على رأيه، وقال النصارى: أهذا رسولٌ مبشر بين يدي الخليفة؟ فقالوا: لا، بل هو الخليفة. فقالوا: أهو الذي على الراحِلة؟ فقالوا: لا، بل هو الذي يقودها. فضجَّ الناسُ بالبكاء...
وفتح بيت المقدس، وقال لبلال: أذِّن. وعزم عليه أن يفعل، فرفع نداء الحق بصوته الخالد، وضجَّ الناسُ بالبكاء.
الله أكبر!! إنّ هذا لنموذج من مدرسة محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام-، التي أخرجت نماذج ما كانت لتوجد من دون تربية الإسلام، ومن دون فهمٍ لمعانيه.
سلوا كل سماءٍ في السماءِ عنّا، وسلوا كل أرضٍ في الأرضِ عنّا... من الذي كتب على الأرض بدمه لا إله إلا الله، من الذي نشر العدل، من الذي أعلن مبادئه من المنابر كل يوم خمس مرات، من الذي صلّى على دجلة والفرات، سيقول المجد عندها: نحن المسلمون.
وذهب عمر بعدها إلى الله، ولكن بقي عدله، وبقي حبه في القلوب، وبقي عمر في خمائرنا، وفي مجدِنا وتاريخنا وعلى منابِرنا.
بقي عمر شرفًا لنا إلى يوم القيامة... نسأل الله العلي القدير أن يجمعنا به في ظِلِّ عرشه يوم لا ظِلِّ إلا ظله، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه وسلم تسليمًا كثيرًا.
الكاتب: د. صلاح سلطان
المصدر: موقع صلاح سلطان