حكاية في القطار
قطار الساعة السادسة صباحا المتجه إلى القاهرة .. غالبا ما يغادر محطة الزقازيق في ميعاده بدقة متناهية .. لعدة أسباب .. أولا لأن أول محطة قيام له هي محطة الزقازيق .. ثانيا لان أغلب الركاب من الموظفين والطلبة المرتبطين بمواعيد في مصالحهم , أو كلياتهم ومدارسهم .. كانت الوجوه تقريبا نفس الوجوه يوميا , إلا القليل الذي لا يذكر .
عم محمود رئيس القطار .. رجل طيب .. محبوب .. يتعامل مع جميع الركاب كأنهم أسرته الكبيرة التي يلتقي بها كل يوم .. كان واسع الصدر .. صبورا .. مبتسما دائما .. باشـًا على طول الخط .. كان الكثيرون يستغلون هذه الصفات في عم محمود , فيركبون القطار بدون تذاكر .. متعللين بفقد النقود , أو نسيانها .. أو أى أسباب أخرى .. ورغم ذلك .. لم يحدث أن قام عم محمود بتطويق أي راكب من هؤلاء .. فكان يسدد أجرته من جيبه الخاص أثناء توريد العائد اليومي إلي خزينة السكة الحديد .. وإذا رأى عجوزا أو امرأة تقف في الطريق بين الكراسي .. لا يهدأ له بال حتى يجد لها مكانا لتجلس فيه .. وحينما كان يطلب من أحد الشباب أن يترك مكانه للمرأة , أو للمسن .. كان الشاب يستجيب في مرح , بعد أن يكون قد فتح مع عم محمود فاصلا من القفشات والمداعبات التي كانت تسعد الجميع .. كانت المقاعد يجلس فيها نفس الأشخاص .. كأنهم أبرموا اتفاقا فيما بينهم بتوزيعها عليهم .. كل له مقعده الخاص .. فإذا يوم كان خاليا .. يعرف عم محمود , والجميع من الذي غاب .. أما أيام الامتحانات فينقلب القطار إلى قاعات للمحاضرات , وصالات لمراجعة الدروس .. وعندما تظهر نتيجة الامتحانات ينقلب القطار إلى صالات أفراح تتبادل فيها التهاني .. كان عم محمود يعرف الناجح من الراسب دون سؤال .. فالمقعد الخالي يكون صاحبه قد رسب , وأحجم في العودة بالقطار بعد معرفة النتيجة في كليته أو معهده , وفضل أن يستقل وسيلة مواصلات أخرى تحاشيا لنظرات الآخرين من ركاب القطار وهروبا من تساؤلاتهم .. كان الطلبة في هذا اليوم يشكلون فيما بينهم مجموعات يتم فيها الطبل والرقص والغناء وإطلاق الزغاريد من الجنسين .. ولم يكن غريبا أن ترى بعض البنات وقد اعتلين فوق الكراسي , وهات يا رقص وسط تهليل وتصفيق زملائهن .. سرعان ما ينضم باقي الركاب من موظفين وعمال إلي هذا الحفل البهيج بالتصفيق والتمايل وقد استخفهم الطرب , وربما تجد منهم من تطوع بالغناء أو الرقص أو القرع علي الطبلة .. وحين يموت أحد أقارب راكب من الركاب .. ينقلب القطار إلى صوان للتعازي , أو دار للمناسبات .. يتطوع أحد الركاب فيجلس القرفصاء , ويطلق عقيرته بتلاوة آيات من القرآن الكريم .. ويقوم الجميع بتقديم واجب العزاء بعد أن يشكلوا طابورا أو صفا طويلا لمصافحة صاحب العزاء واحدا تلو الآخر .. كان عم محمود دائما يشارك المنكوب في تلقي العزاء وربما يسبقه في مصافحة المعزين .
ولا تعجب إن شاهدت يوما جلسة عرفية انعقدت في القطار لحل مشكلة , أو تسوية نزاع بين طرفين , أو مجموعة أطراف .. دائما ما يكون عم محمود على رأس لجنة التحكيم أو القضاة .. وغالبا ما كان يحل النزاع قبل الوصول إلى القاهرة , وقد يستأنف في رحلة العودة إلى الزقازيق , المهم أن النزاع دائما ما كان ينتهي إلي حل .. وفي بعض الأحيان كان يقطع الراكب أجازته ويستقل القطار لتنعقد الجلسة العرفية وتبحث معضلته أو مشكلته أو شكواه ..
في أحد المرات ركبت سيدة حامل القطار من محطة الزقازيق .. فاجأها المخاض في محطة منيا القمح .. تحول القطار إلى مستشفى متحرك .. ليظهر طبيب وممرضة من بين الركاب , ويتحول باقي الركاب إلى معاونين .. منهم من يملأ القطار حركة دائبة مستمرة لتلبية طلبات الطبيب وتوفير كل ما يطلبه من ماء ساخن من البوفيه , أو استحضار قطن وشاش قد تكون في حوزة أحد الركاب أو الاستعاضة عن ذلك بغطاء رأس بعض الراكبات أو بعض ملابسهن الإضافية .. أما باقي الركاب فكانوا يجلسون وقد تملكهم القلق لا تكف شفاههم عن التمتمة والدعاء إلي أن يصرخ المولود .. صرخ المولود في محطة شبرا الخيمة .. تهللت الوجوه .. تبادل الركاب التهنئة , كأنهم جميعا من أهل السيدة الحامل .. لم يسلم عم محمود من تلقي الدعابات من الركاب ..
ــ إلحق يا عم محمود .. فيه راكب كان مزوغ منك ومستخبي .. .. في بطن امه .. ها .. ها .. ها ..
إذا كان يوسف وهبي قد قال في إحدى مسرحياته , أو تصريحاته لا أذكر بالضبط .. ولكن أذكر أنه قال ( ما الدنيا إلا مسرح كبير ) .. فعم محمود يقول ( ما القطار إلا دنيا صغيرة ) فقد رأى خلال حياته في هذا القطار أشكالا وأنواعا من البشر والأحداث والمفارقات .. التقي بناس .. فارق ناس .. فرح مع ناس وحزن مع آخرين .. رأى بعينيه من طبائع البشر وتصرفاتهم المتناقضة ما لا يعد ولا يحصى .
ذات يوم استقل القطار فتاة صغيرة , في العشرين من عمرها .. هادئة خجولة .. تمتلك الكثير من مقومات الجمال التي لا يخفيها رقة حالها , ومعالم فقرها .. لا تخطئها العين المجردة .. استنتج عم محمود بحدسه وخبرته التي لا تخطئ , أن هذه الفتاة عضوه جديدة في أسرة القطار .. ولن تكون المرة الوحيدة التي سوف تستقل فيها القطار .. وإنما ستكون عضوا دائما فيه .. قادها إلي الكرسي الذي خلا لتوه بتخرج أحد الطلبة من الجامعة والتحاقه بالخدمة العسكرية لقضاء فترة التجنيد الإجباري .. كان الكرسي في أول العربة .. علم منها عم محمود أن اسمها فاتن .. وأنها التحقت حديثا بالعمل في مدينة القاهرة .. وأن أباها متوفى وترك لها أسرة من أم , وأختين صغيرتين لا زالتا في مراحل التعليم ..
أغدق عليها عم محمود بالرعاية والاهتمام .. وتطوع بتعريف الركاب الدائمين بها .. فكان استقبالا حافلا لها .. الكل كان يتنافس في تقديم ما يستطيع من حفاوة وتكريم .. لم تلبث الفتاة أن انخرطت في أسرة القطار وأصبحت بعد فترة وجيزة واحدة منهم ..
بعد عدة أيام لاحظ عم محمود أن صابر يحاول التقرب من فاتن , وعيناه دائما عليها منذ قيام القطار حتى محطة الوصول .. ويبدو أن فاتن كانت تلاحظ ذلك .. ازداد خفرها , وإطراقها .. ويبدوا أن الركاب كانوا يلاحظون أيضا .. ففي اليوم التالي تطوع الراكب الذي يجلس بجوار فاتن , وأبدل مكانه مع صابر .. فوجئ عم محمود بصابر يجلس بجوار فاتن , وقد غمرها الخجل .. وصبغ وجنتيها باللون الأحمر الوردي .. فزادها جمالا , ونامت أهدابها الطويلة على جفونها فأبرزت حسنها .. انكمشت فاتن على نفسها .. ابتسم عم محمود .. فهو يعلم أن هذه دائما هي البداية , وأن وراء هذا الجو قلوب تخفق بوجيب الحب , والمشاعر النبيلة .. يحاول صابرأن يتجاذب معها أطراف الحديث .. فكانت تستجيب على استحياء , بصوت واهن لا يكاد يبين .. الركاب يتعمدون التجاهل , وكأنهم يرعون نبتا جديدا لابد أن ينموا ويكبر .. على فترات متباعدة يتطوع أحد الركاب ويقترب من مقعدهما ويطلق دعابة , أو يروي رواية أو أقصوصة أو نادرة .. في محاولة لإذابة الجمود الظاهري بينهما حتى يقرب المسافات رغم التصاق الأكتاف والأذرع ..
بمرور الوقت أصبحت علاقة سامي بفاتن من الأمور المألوفة للجميع داخل القطار .. ذابت الفواصل بين الحبيبين , وزاد التصاقهما .. ذاب الجليد بينهما , وحلت حرارة الوصال في حديثهما .. إرتفع صوتيهما وعلت ضحكاتهما وجلجلت .. اشترك معهما الجميع في حصد السعادة والسرور من هذه العلاقة التي نمت وترعرعت بينهم .. كان عم محمود سعيدا بهما .. فبخبرته كان يتوقع اقتراب موعد ارتباطهما بالزواج , وتكوين أسرة صغيرة .. وليدة .. متمنيا لهما في نفسه التوفيق والنجاح ..
بعد عدة أسابيع فوجئ الجميع بأن مقعد الحبيبين خاليا .. لم يحضر صابر ولا فاتن .. اندهشوا يتساءلون عن السبب .. كثرت التخمينات والاستنتاجات .. ولكن عم الجميع حالة من الحزن والأسف .. فقد كانوا يرعون علاقتهما البريئة , البكر , في سعادة وسرور .. كانوا يشعرون بأنهم مسئولون عنهم مسئولية تامة .. ومسئولون عن الوصول بهما إلى آخر المحطة .. محطة الزواج .. راحوا يتساءلون في دهشة .. ترى ماذا يمكن أن يكون قد حدث لهما ؟.. هل انفصلا ؟ .. هل تشاحنا وقررا ألا يلتقيا .. فهجر كل منهم القطار حتى لا يلتقى بالآخر حتى ولو صدفة ؟ .. هل حدث لهما مكروها لا قدر الله ؟ .. وهم يتنزهان على كوبري قصر النيل .. مثلا ؟ .. أو غرقا أثناء ركوبهما زوارق العشاق في عرض النهر ؟ .. هل اصطدمت بهم سيارة أثناء اجتيازهما عرض الطريق وهما في حالة هيام وحب ؟ .. أو انقلب بهم ميكروباص في إحدى طرق وجسور الأرياف وضواحي الزقازيق ؟ .. راح الجميع يضرب أخماسا في أسداس , أصبح محور الحديث , والتعليق كله يدور في فلك موضوع غياب صابر وفاتن .. ظهر عم محمود بعد أن تخطى المفصلات بين عربات القطار , وبرز من فتحة العربة , تسمر في مكانه مندهشا من حالة التوتر التي كان عليها الركاب .. أثاره الحال .. كلهم منهمكون في الحديث وإطلاق الفتاوى على غير هدى , وقد ارتسمت على وجوههم الكآبة والحزن ..انتبهوا لوجوده .. توجهوا إليه مستنجدين ..
ــ انت فين يا عم محمود ؟ .. شفت المصيبة ؟ ..
ــ مصيبة ايه .. كفى الله الشر ؟ ..
ــ صابر وفاتن مش موجودين .. خايفين يكون حصل لهم مكروه .. لا قدر الله ..
بحلق عم محمود في وجوههم متنقلا بعينيه , وبعد فترة سكون وترقب أطلق ضحكة مجلجلة , متصلة .. عجز عن إيقافها , وكلما حاول داهمته حمى الاستمرار وسط دهشة الجميع وذهولهم , منتظرين أن ينتهي وهم ينظرون إلى بعضهم البعض في استغراب
ــ خير يا عم محمود ؟ .. هي دي حاجة تضحك ؟ ..
ــ طبعا تضحك .. عشان خيبتكم التقيلة .. قاعدين شايلين طاجن ستكم على روسكم , وواقعين في حيص بيص ..
ــ يعني ايه يا عم محمود ؟ ..
ــ يعني انتم خايبين .. شوفوا يا جماعة .. عموكم محمود أكل منه الدهر وشرب . وشعره بقى أبيض زي لوزة القطن لما تفتح .. كان لازم تعرفوا انهم ما دام غابوا الاتنين مع بعض يبقى هما اتجوزوا يا بقر .. ها .. ها ..
جحظت عيونهم وهم يتبادلون النظرات , وقد تدلت شفاههم في بلاهة وسط ضحك وقهقهة عم محمود المتواصلة وقد استمر في عمله لمراجعة التذاكر .. لم يلبث أن انقلب الحال في القطار من الحزن إلى السرور , ومن النكد والغم إلى الفرح والانشراح .. ومن الصمت والهمهمة إلى الضحكات العالية الصاخبة والصياح .. انقلبت العربة إلي صالة رقص وأغاني وطبل وزمر .. وسرعان ما انتقلت الأخبار إلى باقي عربات القطار .. فأصبح يسير منبعثا منه الزغاريد والأغاني حتى اعتقد الناس بالخارج أن القطار لفنانين يجوبون البلاد لمناسبة قومية فوقفوا يتفرجون خاصة في المزلقانات والمحطات عندما يهدئ القطار من سرعته أو يتوقف على الرصيف ..
حضر الزوجان في اليوم التالي وتزاحم الركاب لتقديم واجب التهنئة لهما .. كان أسعدهم جميعا عم محمود كأنه زواج اثنين من أبنائه .
أصبح من الطبيعي والمألوف أن يجلس الزوجين متلاصقين في القطار دون أن يثير ذلك حفيظة أحد أو استنكار من أحد .. كانت الزوجة كثيرا ما تنام علي كتف زوجها .. وتستغرق في نوم عميق .. في فترات اليقظة يتباحثان في خططهما الأسرية بصوت عال فلا أسرار بين أسرة القطار الكبيرة .. حتى مسألة الإنجاب .. كانوا يتناولونها بحرية تامة .. وكثيرا ما كان يشاركهم آخرين بالرأى والمشورة .. خاصة الرجال المتزوجون , والنساء المتزوجات .. مرت أيام العسل وما بعد العسل عليهما في سعادة بالغة , ترفرف عليهما طيور الحب .. يحوطهما مباركة الآخرين .. كان عم محمود يمر عليهم كل يوم .. يجالسهم ويناقشهم , ويطمئن على سير حياتهما .. ولا ينسى في نهاية الجلسة أن يطلق بعض الدعاء لكي يديمها الله عليهما نعمة , ويهبهما الصحة والسعادة , ويبعد عنهما الشيطان وأولاد الحرام .. ويقيهم من شر الحسد والحاسدين .
لم تكن محاولات حسام تعلب للتقرب من الزوجين تريح عم محمود .. كان يخشى عليهما من تطفله , ومحاولات حشر أنفه في أمورهما .. فهو يعرف حسام تعلب من زمن بعيد .. منذ أن كان طالبا في جامعة القاهرة حتى تخرج وعمل أيضا في مصلحة البريد بالقاهرة , وظل عضوا دائما بالقطار .. حسام شاب نحيل .. متأنق .. مصفف الشعر على طريقة نجوم السينما الأمريكية أمثال كلارك جيبيل , وألفيس بريسلي , وغيرهم .. عيناه واسعتين , جريئتين , يسلطهما كأنه يريد النفاذ إلي أعماق الناس , والغوص بهما في أسرارهم .. يعتني جيدا بحالة هندامه التي تخالها كأنها قد تم كيها توا , وتظل على حالها منذ ركوبه القطار في رحلة الذهاب , وحتى عودته من عمله في رحلة العودة إلي الزقازيق .. دائم الابتسام .. وابتسامته لا تدري إن كانت ابتسامة ترحيب , أم ابتسامة سخرية واستهانة , كان غامضا كالطلسم , عميقا كالبئر , لا تقرأ على وجهه تعبيرا واضحا إلا ما يسمح به هو نفسه , أو ما يتظاهر به ويتعمد إظهاره لغرض في نفسه .
تبدلت موجات وأجيال على عم محمود في القطار طوال مدة خدمته .. لم يقابل فيها شخصا في مكر وخبث حسام تعلب .. يعرف عنه حكايات وروايات مع فتيات كثيرات تناوبن عليه .. له مع كل منهن مقلبا , أونقيصة , أو مكيدة .. ربما لا يعرف الكثير من الركاب الحاليين عنها شيئا .. عم محمود بطبعه كتوم .. لا ينقل أخبار الآخرين , أو يخوض في خصوصياتهم .. تشعر أنه يجهل أمورهم .. ولكن لديه لكل منهم ملف سيرة ذاتية في ذاكرته لا يستطيع قراءتها أحد غيره ..
ضايق عم محمود أن يرى حسام تعلب يجلس في المقعد المقابل للزوجين صابر وفاتن ..يسرد لهم الأحاديث .. وهم منبهرون بشخصيته , وسعداء بصحبته .. مع الأيام أصبحت هذه الصحبة دائمة , بل تعمقت العلاقة .. فترى الفواصل والحدود قد أزيلت بينه وبينهم .. خاصة الزوجة .., فالنكات والقفشات , والخبط على الأيدي , والضحكات الصاخبة تزيد يوما بعد يوم .. حتى أن حسام كان يمر عليهما في المنزل صباحا ليرافقهما إلى القطار .. كما كان يرافقهما في رحلة العودة .. حتى أن الغريب لا يمكن أن يستنتج من منهم الزوج , ومن الصديق .
مرت الأيام على هذا المنوال .. اصطاد فيها عم محمود نظرات مختلسة .. ذات مغذى بين فاتن وحسام تعلب .. لم تخطئها خبرته العريضة فى عالم النظرات .. راحت هذه النظرات تطول مع الأيام , وتكتسب من الجرأة ما جعلها غير خافية على أحد من الركاب .. حار عم محمود .. ماذا يصنع حيال ما يراه أمام عينيه , وينبئه به قلبه .. هل يحذر صابر ؟ .. ولكنه يرى صابرا مستسلما سعيدا , واثقا في صديقه إلى حد الإيمان به وبإخلاصه .. حتى أنه إذا واجهته مشكلة مهما كانت بساطتها لجأ لصديقه حسام الذي كان يبذل كل جهده ووقته لحلها , ولم يكن يعدم الوسيلة مهما كانت صعوبة هذه المشكلة .. رأى عم محمود أن حسام تعلب تغلغل في حياة الزوجين كالسرطان , الذي لا شفاء منه إلا بالبتر .. ولكن كيف والبتر يمكن أن يهلك الجميع دون تفرقة .. كان يتمتم في نفسه ( ربنا يستر ويلطف بعباده .. ) .
ذات يوم .. أثناء مرور عم محمود .. لم يجد صابرا في مقعده .. ولكن بدلا منه كان حسام تعلب يجلس بجوار فاتن .. لعب الفأر في عبه وانتابته حالة من الاندهاش والخوف .. سأل فاتن ..
ــ خير يا بنتي .. فين صابر ؟ ..
أجابته بلا مبالاة .. كأن أمرا عاديا لا خوف منه قد حدث له ..
ــ لا أبدا .. تعبان شوية في المستشفى ..
ــ يعنى إيه في المستشفى .. حصل إيه ؟ ..
ــ مفيش يا عم محمود .. دي حادثة بسيطة , وجبسوا رجله .. ومسمار صغير في دراعه .. وان شاء الله كلها شهر ويرجع ..
أخذ الرجل يقلب عينيه بين الزوجة والصديق .. وهو لا يستطيع استيعاب الوضع .. كانا ملتصقين .. يتجاذبان الحديث في سعادة .. يتضاحكان .. الزوجة منشرحة كأن زوجها موجود بجوارها , يشملها برعايته , وأمنه .. أسّر إليه أحد الركاب هامسا ..
ــ شفت يا عم محمود اللي بيحصل .. امبارح كانوا بسلامتهم ماشيين ع الكورنيش إيدها ف وسطه .. ودراعه على كتفها .. والمسائل كانت رومانسية خالص ..
ــ قصدك مين ؟ ..
ــ تعلب وفاتن يا عم محمود .. انت مش واخد بالك واللا إيه ؟ ..
أسقط في يد الرجل , وأصابته حالة من الحزن والغم .. فقد كان يعتبر صابر وفاتن بمثابة أبناء له .. وأنه كان المسئول عن زواجهما .. كان يعتبر أن له الفضل في إتمام هذه العلاقة الطاهرة التي تمت على يديه .. ظل يرعاها حتى ترعرعت ونمت في حضرته وتحت ناظره .. راح يؤنب نفسه , ويجلدها لأنه لم يقدم على تحذير صابر مهما كان رد فعله المنتظر .. كان يجب أن ينبهه وما يحدث يحدُث .. ولكن سيكون وقتها قد برأ نفسه , وأبرأ ذمته .. كان يتمنى أن يقول في نفسه ( اللهم قد بلغت .. اللهم فاشهد) ربما أفاق صابر من غفوته .. وأنقذ زوجته , وبيته , وحياته الزوجية في الوقت المناسب .. من براثن وشباك تعلب .. ربما نجح في وضع الأمور في نصابها الصحيح .. راح يعاتب نفسه .. لأنه أصبح شيطانا أخرس .. وخاصة وأنه رأى الحق وأحجم عن الكلام .. رأى الباطل , وتردد في التحذير منه أو محاربته .. مر اليوم على الرجل وهو في حالة يرثى لها .. سألته زوجته عما ألم به اليوم , وحالة اليأس والغم التي هو عليها على غير العادة .. لم يستطع أن يخبرها خوفا من أن تتهمه بالجبن والتقصير .. فهو يعرفها .. صريحة ولا تخشى في كلمة الحق لومة لائم .. أكيد سوف تقول له .. ( ذنبها في رقبتك يا حاج محمود .. حتاخده معاك للقبر .. ربنا حيقلبك في النار بسببه .. ) .. فضل أن يغلق صدره على سره قائلا لها بأنه يشعر ببعض التعب والإرهاق .. لمقابلته بعض المشاكل المعتادة في القطار .. ولما ألحت عليه بالسؤال حتى يفرج عن نفسه ويشركها في حزنه علها تسري عنه أجابها .. بأن الإيراد كاد أن يضيع .. ولكن البوليس أكرمه الله نجح في القبض على السارق قبل أن يتصرف في النقود ويبددها .
مرت الأيام على عم محمود كان يتحاشى النظر إلى الصديق والزوجة .. وفي كثير من الأحيان كان يتجنب المرور في العربة المتواجدين فيها .. ينتظر إلى أن يقف القطار في أقرب محطة ليبرح القطار ويتخطى العربة ثم يركب التي تليها .. وبعد فترة خشى من حساب ربه على إهماله لعمله فأقلع عن هذا التصرف , مكتفيا بتحاشي النظر إليهما ..
تصادف أن كان عم محمود يمر على العربة المشئومة إياها .. وقعت عيناه على فاتن , وقد أراحت رأسها على كتف حسام واستغرقت في النوم .. كان حسام يحيط خصرها بزراعه .. وإذا بخبطات عكاز تدق على أرضية القطار بقوة .. كان الصوت دقات رتيبة تعلو تدريجيا حتى أن صوتها كان يعلو على صوت عجلات القطار فوق القضبان الحديدية .. التفت عم محمود خلفه ليرى صابر وهو يدلف إلى العربة من فتحة الفاصل بين العربات .. كان متجهم الوجه .. ترتسم عليه آيات الغضب .. والشرر ينطلق من عينيه فى اتجاه واحد لا يحيد عنه .. حتى أنه لم يرى عم محمود أمامه .. تخطاه بعكازيه في اتجاه مقعد زوجته .. أفاقت من غفوتها على حالة السكون المطبق الذي ساد العربة فجأة .. اتجهت الأنظار صوبه في اندهاش وذهول ..
زأر صابر زئيرا هائلا وهو يرفع أحد عكازيه لأعلى في اتجاه تعلب وهو يقول ..
ــ يبقي كل اللي بيتقال عنكم صحيح يا كلب ..
استجمع كل قوته وهوى بالعكاز فوق رأس تعلب الذي كان أسبق منه في الفرار لتخطئ الضربة رأسه بسنتيمترات قليله .. أسرع تعلب كالفأر المذعور مخترقا صفوف المقاعد في خفة وليونة يحسد عليها .. تبعه صابر بدقات عكازيه القوية الغاضبة بثبات وإصرار .. ونظراته النارية لا تفارق عينيه .. راح تعلب يجري هنا وهناك كأنه فأر وقع في مصيدة .. اقترب صابر , وكاد أن يدركه .. خفف القطار من سرعته تمهيدا للدخول علي رصيف المحطة , أدركه صابر عند الباب .. قفز تعلب أثناء حركة القطار لحظة دخوله إلى الرصيف .. اختلت قدمه ليصطدم جسده بحافة الرصيف وتسحبه عجلات القطار بسرعة البرق ليصبح في ثانية واحدة كتلة من اللحم المفروم وسط صراخ الركاب , والبشر المتواجدين على الرصيف , وتنشط حركة الناس داخل القطار وعلى الرصيف طولا وعرضا .. ولكن لم يكن أحدا منهم يملك القدرة على الإنقاذ أو تقديم العون , فعجلات القطار كانت أسرع وأشرس .
احتشد الناس حول مكان الجثة في محاولة لتجميع الأشلاء , أو للمشاهدة , ولم يتبقى داخل العربة بالقطار إلا فاتن , التى لم تبارح مقعدها وظلت به مأخوذة من التطور السريع للأحداث .. لقد ألجمتها المفاجأة , وشلت تفكيرها .. لم يتحرك فيها إلا عينيها الزائغتين المذعورتين .. وقف صابر على بعد خطوات منها .. يرمقها بنظرات احتقار نارية .. عاد عم محمود ليشاهد هذا المشهد المأسوي بين صابر و فاتن .. أطلق صابر كلمات في قوة وإصرار ولكن بمعاناة وصعوبة شديدة وهو لا زال يحدق فيها بنظراته النارية ..
ــ انتي طالق .. بالتلاته ..
ودعها بنظرة أخيرة قاسية .. وانطلق إلى حال سبيله يدق الأرض بعكازيه في خطوات رتيبة واثقة , ونزل من القطار ..
ألقت فاتن وجهها في كفيها , وراحت تجهش بالبكاء ..
أما عم محمود فلم يكن يدري .. أكانت تبكي على العشيق الذي مات .. أم على الزوج الذي راح واختفى مع فلول الركاب الذين غادروا القطار ..
*******