لم أكن اتصور حتى في الاربعين من عمري انني سأصبح كاتبا معروفا فقد ولدت
بالخطأ ونشأت بالخطأ وكتبت بالخطأ ايضا، هكذا يتحدث الاديب السوري الكبير
حنا مينا عن نفسه.
والدته تدعى مريانا ميخائيل زكور رزقت بثلاث
بنات كن في ذلك الوقت ثلاث مصائب فقد كان مطلوبا من المرأة آنذاك الا تنجب
سوى الذكور لكن القدر شاء ان تحمل وتلد البنات الثلاث حتى يأتي اليها حنا
في الحمل الرابع.
لكنه ولد عليلا وكان الموت يحوم حوله حتى شب عن
الطوق، اما والده سليم حنا مينا فقد عمل حمالا في المرفأ وبائعا للحلوى
والمرطبات ومرابعا في بستان فاكهة ومربيا لدود القز وكان يعشق الترحال الا
انه كان فاشلا كبيرا وكان يترك العائلة اغلب الاحيان للخوف والجوع كما كان
سكيرا يشرب الخمر حتى يسقط فاقدا الوعي.
ولد حنا مينا في عام 1924
في مدينة اللاذقية وهاجر صغيرا مع عائلته الى مدينة السويدية «اسكندرونة
حاليا» وبعد ذلك انتقلت عائلته الى الريف وبقيت عدة اعوام وفي الثامنة من
عمره دخل المدرسة الابتدائية عام 1936 ثم عمل تحت ضغط الفقر في مهن كثيرة
من حمال في مرفأ الى حلاق ولم يكمل تعليمه بعد حصوله على الابتدائية.
لكنه كان بهذه الدرجة التعليمية، المتعلم الوحيد في حي «المستنقع» فقد نشأ
في محيط اجتماعي متخلف وأمي، وهو في الثانية عشر من عمره انخرط وسط
الحمالين الذين علموه اولى مبادئه السياسية من خلال نضالهم المبكر ضد
الانتداب الفرنسي والاقطاع.
ومن اللاذقية بدأت رحلته مع النشر حيث
والده يجر العائلة من متاهة الى اخرى فذهبوا الى سهل ارسوذ قرب انطاكية ثم
عادوا الى اللاذقية من جديد حيث عمل حلاقا ثم انتقل الى دمشق عام 1947
ليعمل في الصحافة، وكان قد بدأ مشواره مع الكتابة منذ عام 1942 فكتب قصصا
قصيرة نشرت في صحف ومجلات سورية لكن لم يجمعها في كتاب فضاعت كلها مع تنقله
المستمر.
تزوج حنا مينا من مريم دميان سعيد من بلدة السويدية
لكنه قابلها في اللاذقية وانجبت له خمسة ابناء، توفي الولد الاول في
الخمسينيات في ظل ظروف النضال والحرمان والشقاء، ثم سعد وهو ممثل واعد
وثلاث بنات سلوى «طبيبة» وسوسن «مخدرة» وامل مهندسة مدنية، وكانت اسرته
ملازمة له في رحلة تشرده، فقد عبر اوروبا حتى وصل الى الصين التي اقام فيها
مايقرب من عشر سنوات لم يكتب فيها حرفا واحدا.
تشكل وعيه الادبي
مع جيرانه في حي «المستنقع» حيث اخذ على عاتقه منذ ترك المدرسة كتابة
الرسائل والعرائض الحكومية، فكان لسان الحي وسفيره المعتمد لدى الدوائر
الحكومية يطالب بحقوقهم في العمل والطعام والتعليم حتى دفع ثمن جرأته
بالقائه في السجن، بعد ذلك في اللاذقية عندما عمل حلاقا كان يبيع جريدة
«صوت الشعب» الناطقة باسم المسحوقين وكان ذلك اثناء الحرب العالمية الثانية
وكان ضد النازية وضد الاحتلال الفرنسي، فبدأ بكتابة الاخبار والمقالات
الصغيرة حتى تدرج ليصل الى كتابة القصص القصيرة ونشرها في صحف سورية
ولبنانية، كما كتب مسرحية دونكيشوتية ضاعت ايضا مع القصص.
كانت
اولى رواياته هي «المصابيح الزرق» والتي تم ترجمتها الى الروسية والصينية،
ثم «الشراع والعصافة» مترجمة الى الروسية، «الثلج يأتي من النافذة» يتم
تدريسها بالسوربون بفرنسا، «الشمس في يوم غائم» ترجمت الى الفرنسية
والانجليزية ، «الباطر» ترجمت الى الصينية والانجليزية «المستنقع»،
«المرضد» «حكايا بحار» «الدقل»، «مأساة ديمتريو» «القطاف» «حمامة زرقاء في
السحب»، «نهاية رجل شجاع» ثم مجموعة قصصية بعنوان «الابنوسة البيضاء» وله
دراسات ادبية مثل «ناظم حكمت» و «ناظم حكمت ثائرا» و «ادب الحرب» وهواجس في
التجربة الروائية».
وحنا مينا معروف بأنه الاديب العربي الاكثر
انتشاراً بعد نجيب محفوظ ويأتي معه في نفس الكفة الشاعر الراحل نزار قباني،
فرواياته يتم اعادة طبعها كثيرا فمنها ماوصل الى الطبعة الخامسة ومنها وما
وصل الى السابعة، كما انه مشهور ايضا بأن مصدر الهامه البحر حيث يقول عن
نفسه «لحمي سمك، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش صراع حياة، اما العواصف
فقد نقشت وشما على جلدي، اذا نادوا يابحر! اجبت انا! البحر انا، فيه ولدت
وفيه ارغب ان اموت» ويعتبرحنا مينا فترة عمله كبحار هي اهم فترات حياته لكن
اجبرته الحرب العالمية الثانية على التوقف عن العمل في البحر فعمل اجيرا
ومصلح دراجات ومربي اطفال وعاملاً صيدلية وحلاقاً وصحفياً وكاتب مسلسلات
اذاعية ثم موظفاً حكومياً واخيرا روائياً.
وتتسم روايات حنا مينا
بغنى في الشخوص فقد وصل عدد الشخصيات في عشر روايات الى خمسمئة وستين شخصا
تقريبا، فقد حاول احد الادباء السوريين ان يحصيهم فلم يستطع فأرسل خطابا
الى مينا يطرح عليه سؤالاً واحدا وينتظر الاجابة عليه وهو «من اي متحف بشري
جئت بهذا الحشد من المخلوقات الذين لايشبه احدهم الاخر؟ انني الجأ اليك
وانتظر الجواب» لكن حنا لم يجب فهو نفسه لايعرف، فعد السؤال من باب
التعجيز.
ان حنا مينا اديب يهوى المجهول ويكره الطرق السهلة، يغوص
بقلمه في البحر والغابة والجبل والثلج والمعركة الحربية والطرق البعيدة
والنضال الوطني السري والموت والجنون والشجاعة والبطولات الشعبية
والموروثات والمأثورات والصور الغريبة، وبذلك يقع قارئه في حبائله التي
تنغزل من شخصيات غربية وعالم عجيب وواقع صعب التصور، ورغم الزخم الغريب
لروايات حنا مينا وتشابك الاطراف فيها وعدم قدرتك منذ البداية على ان تمسك
بالخط الدرامي الذي تسير عليه، الا انك لايمكن ان تشعر بالملل او صعوبة
المضي مع الاحداث او عدم الانفعال والتعاطف مع شخصياته بل ربما تناسبك
شخصية منهم وتظل حبيسا داخلها الى ان تغلق الكتاب على صفحته الاخيرة، لاهثا
محاولا استرداد نفسك المأسورة والمشتتة داخل عالم حنا مينا غير العادي.
كما يتسم اسلوب حنا مينا بالسلاسة فلا تعقيد في تراكيب الجمل ولا صورا
اجمالية مبالغا فيها بقصد الاستعراض الادبي ولا كلمات رنانة ومستغربة على
اللسان والاذن، لكنه في الوقت نفسه يحمل قلما صعب تكراره او استحداثه فلغته
الادبية هي السهل الممتنع بعينه.
حصل الروائي السوري حنا مينه على
جائزة "الكاتب العربي" التي منحها اتحاد الكتاب المصريين بمناسبة مرور
ثلاثين عاما على تأسيسه، اعترافا بموقعه المتميز على خريطة الرواية
العربية.
وحنا مينه كاتب روائي تميز بأسلوبه المغرق في الواقعية
في تصويره لأبطال رواياته الذين يختار معظمهم من حواري وأزقة مدينته
اللاذقية دون أن يعمد حتى إلى تغيير أسمائهم.
يأخذ عليه الكاتب
شوقي بغدادي في المقدمة التي كتبها لروايته "المصابيح الزرق" انه يقدم
الشخصيات الواقعية في حياتها البسيطة وصراعها اليومي كتفاصيل في لوحة
اجتماعية دون البحث عن جانب محدد في داخل تلك الشخصيات تتميز به عن غيرها
ليسلط الضوء عليه ويقدمه للقارئ بتفرده ووحدانيته، وهو ما يقول بغدادي إن
كبار أعمدة الرواية الواقعية قد اعتمدوه في تصوير شخصياتهم.
ولكن
بغدادي يسجل لمينه قدرته على "إذهال القارئ" ومفاجأته رغم ان ما يقدمه في
رواياته هو مظاهر الحياة اليومية البسيطة لأناس بسطاء. وهو بذلك، يلعب على
وتر متميز داخل نفسية القارئ الذي تفترض بعض نظريات الأدب انه "يمارس نوعا
من التعليق لنزعة عدم التصديق" (suspension of disbelief) من أجل أن يتفاعل
مع الأدب الذي يفترض انه يدرك انه وان كان واقعيا فانه غير حقيقي.
في روايات حنا مينه المفرطة في واقعيتها ينجح في مغافلة القارئ ومفاجأته
وإذهاله، رغم ان تطور الأحداث وسلوك الشخصيات كثيرا ما يكون قابلا للتبؤ،
ولكن المؤلف ينجح في إضفاء أبعاد غير متوقعة على شخصيات رواياته أحيانا
تكون مقنعة وفي أحيان أخرى تبدو مثالية.
البطل الايجابي، المنتصر دائما
تقول نجاح العطار في تقديمها لرواية "بقايا صور" ان نزعة الكاتب "في تأكيد
قدرة الإنسان الجبارة على أن ينتصر دائما على الصعاب والمعوقات ليست
مجانية تحذف الجانب الآخر غير المنتصر".
ومع إن تصوير صراع "البطل
المنتصر" في روايات حنا مينه يعمد إلى إثراء شخصيته فعلا، بعدم الاكتفاء
بتصويره "ككتلة من الصلابة" بل كشخصية بشرية لها سقطاتها وهفواتها، إلا ان
نمطا من الشخصيات في رواياته يبقى "مثاليا" وهو البطل اليساري، النقابي،
المناضل، الذي لا يخفي الكاتب تعاطفه معه، وربما كان هذا أحد نقاط الضعف في
بعض كتابات حنا مينه.
بالطبع لا يستطيع الكاتب الروائي إلا إن
يسجل موقفا في كتاباته مهما حاول التزام الحياد، إلا أن حنا مينه في تصويره
المثالي لأبطاله لا يعمد حتى الى ادعاء الحياد، وربما كانت شخصياته
اليسارية من أقل شخصياته اقناعا واستحواذا على قبول القارئ، فهم يبدون
خارقين ليس فقط في تعاملهم مع الأوضاع الصعبة، بل أيضا في كونهم شخصيات
مستنيرة في منتهى الوعي والحكمة وتتمتع بقدرة على التحليل المتزن واتخاذ
القرارات الصائبة حتى ولو كانت شخصيات بسيطة ذات حظ محدود من التعليم
والثقافة حيث معظمها من أصول عمالية وريفية لم تسعفها ظروفها بالتعليم.
عالم حنا مينه
هناك عنصران مهمان في عالم حنا مينه الروائي: البحر، الذي، كما يقول واكيم
أستور في تقديمه لرواية "الدقل"، هو ميدان اختاره حنا لأنه الوجه الأصخب
والأغنى، وهو كناية ورمز، رمز الحياة كلها وميدان لكل الصراعات، كما يؤكد
أستور.
العنصر الاخر المهم هو الحارة الشعبية في مدينة اللاذقية في عالم ما بين الحربين العالميتين.
شخصيات الحارة هم من لحم ودم، بعضهم أحياء يرزقون وبعضهم ماتوا أثناء رواية قصتهم فعمد الكاتب إلى تغيير مصيرهم في الرواية أيضا.
حنا مينه يكتب الحياة، ولكنه يضفي عليها سحرا جماليا يجعل القارئ يستمتع حتى بمشاهد البؤس.
في احدى قصصه "الكتابة على الأكياس" يصور الظروف الصعبة التي ميزت طفولته،
وكيف جعل منه سوء التغذية صبيا نحيلا غير قادر على القيام بعمل جسدي شاق،
وحين أحس بضرورة مساعدة عائلته المعدمة ماديا ذهب إلى الميناء، حيث اكتشف
عدم قدرته على رفع الأكياس، فشعر بالأسى.
وحين برزت حاجة لكتابة بيانات بسيطة على الأكياس اختاره "المعلم" لأنه يتقن الكتابة.
ويذكر في القصة انه حين التقى "بمعلمه" في دمشق بعد مرور سنين طويلة، وكان
بصحبة صديق يعرف كليهما، قال ذلك الصديق للمعلم:ان حنا كاتب معروف اليوم.
فقال ذلك الرجل البسيط: نعم، أعرف ذلك. لقد بدأ الكتابة عندي، على الأكياس !