حياته
أبو عبد
الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة التغلبي، المعروف بابن الخياط،
الشاعر الدمشقي الكاتب. يتصل نسبه بتغلب وهي قبيلة من ربيعة من العرب
العدنانية.
ولد ابن الخياط بدمشق سنة خمسين وأربعمائة، كما ذكر
ذلك هو نفسه، وكان أبوه خياطاً فاشتهر بالنسبة إليه، وكان له أخ اسمه يحيى
سيأتي ذكره. وكانت دار ابن الخياط في درب القصاعين المعروف اليوم بحي
الخيضرية داخل باب الجابية، وكان عند داره مسجد معلق وقناة، ولم تكن داره
بعيدة عن دار الأمير أبي الفتيان ابن حيوس شاعر الشام في ذلك الزمان.
نشأ ابن الخياط في جوار ابن حيوس الشاعر، ورأى الدنيا مقبلة عليه، وهو
يتقلب في أعطاف النعيم، فود الفتى الناشئ أن يكون مثله، وآنس في نفسه ميلاً
للشعر، ونفوراً من صنعة أبيه الخيَّاط، فأخذ يؤدِّب نفسه بحفظ أشعار
المتقدمين وأخبارهم.
وكانت أحوال دمشق في حداثة ابن الخياط مضطربة
غير مستقرة، وأهل دمشق أحزاب يثورون بالولاة والقواد وينتقضون عليهم كرها
لحكم الدولة الفاطمية. وتأججت الفتنة سنة 460 و عمر ابن الخياط وقتئذ عشر
سنوات، فثار أهل دمشق بأمير الجيوش بدر الجمالي الأرمني والي الشام،
واضطروه إلى الخروج من قصر الإمارة، وأحرقوا القصر ونقضوا بقاياه، وكان ذلك
إيذاناً بزوال حكم الفاطميين عن الشام.
واشتد الخلاف بين الجنود
وبين أهل دمشق، وطرحت النار في جانب منها فاحترقت، واتصلت منه بجامع بني
أمية من غربيه فاحترق في شعبان سنة 461 ولم يبق منه إلا حيطانه الأربعة،
ونهبت دور أهل البلد وأموالهم، فعظم الخطب واشتد الأمر.
وفي سنة
463فتح أتسز بن أوق الخوارزمي من أمراء السلطان ملكشاه السلجوقي القدس،
وقصد دمشق فحصرها وتابع النهب لأعمالها حتى خربها وقطع الميرة عنها، فضاق
الناس وصبروا ولم يمكنوه من ملك البلد. وبقي يحاصرها من حين إلى آخر حتى
دخلها في ذي القعدة سنة 468 فأنزل جنده في دور الدمشقيين، واعتقل من وجوههم
جماعة وشمسهم بمرج راهط حتى فافتدوا نفوسهم بمال أدوه له، ورحل جماعة منهم
عن البلد إلى طرابلس.
وفي سنة 469 لم يبق من أهل دمشق عشر العشر
من الجوع والفاقة، بل لم يبق من أهلها سوى ثلاثة آلاف إنسان بعد خمسمائة
ألف أفناهم الفقر والغلاء والجلاء. وكان بها مائتان وأربعون خبازاً فصار
بها خبازين والأسواق خالية، والدار التي كانت تساوي ثلاثة آلاف دينار ينادى
عليها بعشرة دنانير فلا يشتريها أحد، والدكان الذي كان يساوي ألف دينار ما
يشترى بدينار، وأكلت الكلاب والسنانير والفيران.
في هذه الفترة
العصيبة، ما بين سنة 463 وسنة 469، ترك ابن الخياط دمشق، وهو في عنفوان
الصبا، لم يشتهر بالشعر، فقصد حماة واتصل هناك بأمير أسمه أبو الفوارس محمد
بن مانك وكتب له وخدمه مدة فعرف بابن الخياط الكاتب، ثم اشتهر بالشعر، وفي
ديوانه ص 7 قصيدة يمدح بها هذا الأمير أولها:
سقوهُ كأسَ فرقتهم دهاقاً *** وأسكرهُ الوداعُ فما أفاقَا
وكان قد هاجر من دمشق إلى حلب أوب الفتيان ابن حيوس جاره القديم سنة 464،
وأحسن وفادته بنو مرداس أمراء حلب وأغدقوا عليه عطاياهم، فبدا لابن الخياط
أن يزروه في حلب، ولما اجتمع به وعرض عليه شعره قال: قد نعاني هذا الشاب
إلى نفسي، فقلما نشأ ذو صناعة ومهر فيها إلا كان دليلاً على موت الشيخ من
أبناء جنسه.
وقال ابن الخياط: دخلت في الصبي على الأمير ابن حيوس بحلب وهو مسن فأنشدته:
لمْ يبقَ عندي ما يباعُ بدرهمٍ *** وكفاك مني منظرٌ عن مخبرِ
إلاَّ صبابةُ ماءِ وجهٍ صنتُها *** عنْ أنْ تباعَ وأينَ أينَ المشتَرِي
فقال له ابن حيوس: لو قلتَ: "وأنت نعم المشتري" لكان أحسن، ثم قال: كرمت
عندي ونعيت إليَّ نفسي، فإن الشام لا يخلو من شاعر مجيد، فأنت وارثي، فاقصد
بني عمار بطرابلس فإنهم يحبون هذا الفن، ثم وصله بثياب ودنانير.
وقبل أن يذهب إلى طرابلس مدح الأمير وثاب بن محمود بن نصر بقصيدة أنشده إياها بحماة سنة 474 أولها:
عتادكَ أنْ تشنَّ بِها مغارا *** فقدْهَا شزّباً قُبّاً تَبارى
ومدح بعد ذلك بشيزر الأمير سديد الملك أبا الحسن علي بن مقلّد بن نصر بن منقذ صاحب شيزر سنة 476 بقصيدة أولها:
يقيني يقيني حادثاتِ النوائبِ *** وحزمِيَ حزمِي في ظهورِ النجائبِ
وتصح عزيمته على العمل بوصية شيخه ابن حيوس، فيترك الكتابة عند محمد بن
مانك في حماة، ويقصد بني عمار بطرابلس في حدود سنة 476 وهو ابن ست وعشرين
سنة، وصحت نبوءة ابن حيوس ، فقد توفي بعد سنة من اجتماعه بابن الخياط في
حلب، سنة 473 وأصبح ابن الخياط بعد ذلك على حداثة سنة شاعر الشام، وظل كذلك
إلى آخر حياته.
دخل ابن الخياط طرابلس وكان صاحبها يومئذ القاضي
جلال الملك أبا الحسن علي بن محمد بن عمار، وبنو عمار من خير الحكام، ولهم
أيادٍ بيض على العلم والأدب. وإلى ذلك يشير بقوله من أبيات مدحه بها:
آليتُ لا أبغي نداكَ بشافعٍ *** ما لي إليكَ وسيلة إلاَّكا
وذكر في قصيدة مدحه بها رحلته إليه فقال:
وخرقٍ كأنَّ أليمَّ موجُ ***ترامتْ بِنا أجوازُهُ وخروقُها
كأنَّا على سفنٍ من العيس فوقه *** مجادِيفُها أيدْي المطيِّ وسوقُها
نُرّجي الحْيا منْ راحةِ ابنِ محمدٍ *** وأيُّ سماءٍ لا تشامُ بروقُها
ومدح أخاهُ فخر الملك بعدة قصائد هي من أحسن شعره، منها قصيدة فريدة هي في
رأينا أحسن شعره، سلمت جميع أبياتها وشرفت ألفاظها، ومعانيها، أولها:
أعْطى الشبابَ منَ الآرابِ ما طلبا *** وراحَ يختالُ في ثوبي هوىً وصبا
كما مدح غيرهما من آل عمار ومن رجال دولتهم وأسبابهم.
دخل ابن الخياط طرابلس وهو شاب لا يعتمد إلا على كفاءته في الشعر وطبعه
الفياض وما حفظه من شعر المتقدمين، إذ أن بضاعته في آلات العربية من نحو
وصرف ومعان وبيان وبديع وعروض بضاعة مزجاة. وكان في طرابلس شيخ أندلسي اسمه
أحمد بن محمد الطليطلي له حلقة عامرة بالطلبة يلقي عليهم فيها دروساً في
العربية والأدب، فجعل ابن الخياط يغشى هذه الحلقة ولزم شيخا وأفاد من الأدب
وفنونه. ولم يقتصر على حضور هذه الحلقة، بل جعل يختلف أيضاً إلى دار العلم
التي أنشأها بنو عمار في طرابلس وجهزوها بأنواع الكتب، ويعتبر نفسه من
تلامذتها.
وصحب في طرابلس جماعة من الوجوه والرؤساء والأدباء
فضلاً عن أمرائها بني عمار، وكان في أوقات فراغه يجلس في دكان بسوق من
أسواق طرابلس مع بعض أصحابه من الأدباء، وقد يخرج معهم إلى البساتين
والأماكن النزعة، يروّحون عن أنفسهم ويتطارحون الشعر والأدب. قال ابن
عساكر: "حدث السابق وهو أبو اليمن محمد بن الخضر المعري قال: اجتمعت بأبي
عبد الله بن الخياط بطرابلس، وكنت أنا وهو نجلس في دكان إنسان عطار نصراني
يعرف بأبي الفضل، ذكي محب للأدب، فخرجنا يوماً إلى ظاهر البلد فاخترنا
موضعا جلسنا فيه على غدير هناك، فقال أبو عبد الله للسابق: اعمل في هذا
المعنى أبياتاً عاجلاً، فقال نعم، فعمل ابن الخياط بديها:
أوَ ما ترى قلقَ الغديرِ كأنهُ *** يبدُو لعينكَ منهُ حليُ مناطقِ
مترقرق لعب الشعاع بمائه *** فارتجَّ بخفقُ مثلَ قلبِ العاشقِ
فإذا نظرتَ إليهِ راعَكَ لمعُهُ *** وعللتَ طرفَكَ مِن سرابٍ صادقِ
ولم يفتح الله على السابق ببيت ولا بلفظه، فقال العطار: قد عملت بيتاً واحداً وهو:
قَدْ كنتُ آملُ أن أجيءَ مصلياً *** حتى رأَيتكَ سابِقاً للسابقِ
فاستحسنا ما أتى به وجعلناه من مأثور الأخبار، وكان السابق لا يحفظ من
شعره بيتاً واحداً وأبو عبد الله بن الخياط بخلافه يحفظ شعره منذ عمله إلى
أن مات.
والمدة التي عاشها ابن الخياط في طرابلس تقدر بعشر سنوات
من سنة 476 إلى سنة 486 تزيد أو تنقص قليلاً، نجا فيها من الفقر، ولكنه لم
يبلغ ما تصبو إليه نفسه من الثراء، على أن ما حاز من مال وعقار هناك لم
يسلم من محن الدهر، فقد احترقت داره في طرابلس وأتت النار عليها وعلى ما
فيها من أثاث ومتاع، وقد قال في ذلك قطعة منها قوله:
قدْ نحتْ عظمي خطوبٌ لمْ تزلْ *** تأكلُ الأَحرارَ أكلاً ممعِنا
وأَتتنِي بعدَها نازلةٌ *** أنزلتْ في ساحتيَّ المحَنا
وشعره الذي قاله في طرابلس فيه مقدار غير يسير من الشكوى من معاكسة الدهر له ومن تعذر المطالب.
وفي هذه المدة وفد من طرابلس على منير الدولة والي صور سنة 484 ومدحه بقصيدة أنشده إياها بصور أولها:
إذا عزَّ نفسي عَنْ هواكَ قصورُها *** فمثلُ النوى يقضي عليَّ يسيرُها
وعاد إلى طرابلس ولم يمكث بها طويلاً وتركها وعاد إلى دمشق في حدود سنة
486 ولسانه رطب بالثناء على بني عمار، فقد كتب من دمشق بعد خروجه من طرابلس
قصيدة إلى جلال الملك أولها:
لئنْ عداني زمانٌ عنْ لقائكم *** لما عداني عنْ تذكارِ ما سلفا
ولما عاد ابن الخياط إلى دمشق كان ملكها يومئذ تاج الدولة تتش بن ألب
أرسلان السلجوقي، وكان وزيره هبة الله بن بديع الأصفهاني فصحبه وكان أثيراً
عنده، قال ابن القيسراني: وقع هبة الله بن بديع أبو النجم لابن الخياط
بألف دينار وهو آخر شاعر في زماننا وقع له بألف دينار.
وسافر معه سنة 487 إلى الري وأنشده هناك قصيدة مدحه بها، أولها:
أَيا بينُ ما سلطتَ إلاّ على ظلمِي *** ويا حبُّ ما أبقيتَ منّي سوى الوهمِ
ويقول وهو بالري مخاطباً هبة الله من أبيات:
ومَا كان لي لولاك بالريّ منزل *** وإن شعفت غيري وتيم حبُّها
ولم تطب له الإقامة فيها فتركها بعد أن هجا مستوفي أعمالها واسمه فخراور بأبيات تطرف فيها باستعمال كلمة فارسية وأول الأبيات:
قولا لفخراور قولَ امرئ *** في عرضه عاثَ وفي الرِّيشِ راثْ
وذهب من الري إلى خراسان، وفيها يقول متشوقاً، إلى دمشق وغوطتها:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً *** يروحنِي بالغوطتين نسيمُ
ولم تطل مدة إقامته في بلاد العجم بل عاد إلى دمشق سنة 487 واتصل فيها بالأمير حسان بن مسمار بن سنان أمير الكلبيين ومدحه بقصيدتين:
مطلع الأولى:
هي الديار فعجْ في رسمها العاري *** إنْ كان يغنيكَ تعريجٌ على دار
ومطلع الثانية:
متى أنا طاعنٌ قلبَ الفجاج *** ورامي الخرقِ بالقلصِ النواجي
كما اتصل في السنة نفسها بعضب الدولة أبق أحد مقدمي أمراء دمشق ومدحه بالقصيدة المشهورة التي أولها:
خذا من صبا نجدٍ أماناً لقلبهِ *** فقدْ كادَ ريّاها يطيرُ بلبهِ
وصحب عضب الدولة وخص به مدحه بعدة قصائد ونادمه على الشراب في مجالس اللهو
والأنس والطرب، وكان يرتجل الشعر في وصف تلك المجالس وما يجري فيها من
اللهو.
وطالت صحبته لعضب الدولة حتى فرق بينهما الدهر بوفاة عضب الدولة سنة 502 فرثاه بقصيدة ليست من جيد شعره أولها:
أبعدكَ أتقي نوبَ الزمان *** أبعدكَ أرتجي دركَ الأماني
وبعد وفاة عضب الدولة اتصل بتاج الملوك أبي سعيد بوري بن طغتكين صاحب
دمشق، وكان حينئذ ولياً لعهد أبيه، وصحبه كما صحب عضب الدولة ومدحه وكان
يحضر مجالس لهوه وشرابه ويصفها.
وصحب أيضاً الرئيس أبا الذواد
المفرج بن الحسن الصوفي رئيس دمشق، والوزير طاهر بن سعد المزدقاني، وأبا
اليمن سعيد بن علي التنوخي المعري متولي الشرطة بدمشق، وأبا يعلى حمزة بن
أسد المعروف بابن القلانسي رئيس دمشق وصاحب التاريخ المعروف بذيل تاريخ
دمشق. ومدحهم وأخذ جوائزهم كما مدح غيرهم من القواد والوجوه والرؤساء.
وكان له عدد من الأولاد لا نعرف أسماءهم، ولكن ورد في شعره ما يدل على
ذلك، فقد كتب إلى ابن الصوفي رئيس دمشق قصيدة ذكر فيها أنه ازداد عدد
أولاده بمولود جديد قال:
غير إني أدعو نداكَ إلى يو *** م به زاد في عبيدك عبدُ
ولعمري ما كانَ يخرجُ نجلُ *** عن قبيلٍ أبوهُ فيهمْ يعدُّ
ولأنتَ الأولى بعبدكَ مني *** كلُّ مولىً بعبدهِ مستبِدُّ
ومرض قبل وفاته مدة، وكتب في مرضه سنة 517 إلى الرئيس ابن القلانسي قصيدة هي آخر ما ورد في الديوان من شعره أولها:
عسى باخلٌ بلقاءِ يجودُ *** عَسى ما مضى منْ تدانٍ يعودُ
يقول فيها:
مرضتُ فهلْ منْ شفاءٍ يصابُ *** وهيهاتَ والداءُ طرفٌ وجيدُ
ويا حبّذا مرضي لوْ يكو *** ن ممرضي اليومَ فيمنْ يعودُ
وتوفي بدمشق في حادي عشر شهر رمضان سنة 517 سبع عشرة وخمسمائة. ولم تعين
المقبرة التي دفن فيها ولعلها مقبرة الباب الصغير لقربها من داره.